cloverphoto@الصورة بواسطة نتاليا نونيز على موقع أنسبلاش

المسألة ليست مسألة أرقام، بل نوعية الحياة

وصل عدد سكان العالم إلى 8 مليارات نسمة في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. ما رأي الجمهور بهذا العدد القياسي للأشخاص الموجودين على الأرض، وكيف تؤثر هذه المحطّة البارزة فيهم كأفراد؟ وكيف يؤثر في مجتمعاتهم وبلدانهم؟

وأُجريَت مقابلات مع عدّة أشخاص من الدول العربية، وهي منطقة تتميَّز بمعدّل خصوبة أعلى من المتوسط (2.8 ولادة لكل امرأة مقارنةً بمتوسط العالم البالغ 2.3 ولادة) في حين أنّها تواجه شواغل متعلقة بشحّ المياه، ما أدّى إلى تسارع التصحر (Abumoghli and Goncalves, 2019) وأزمات إنسانية متكرّرة. فهل أثّرت هذه الاتجاهات في آراء الأشخاص بشأن النمو السكاني أو في قراراتهم حول إنجاب الأطفال؟

أجابت امرأة تُدعى راما (تمّ تبديل الاسم) بنعم. وأوضحت المرأة السورية البالغة من العمر 30 سنة قائلة "لا أريد أن أنجب طفلاً في الوقت الذي نعيش فيه هذه الفترات الصعبة." وأضافت: "هناك الكثير من الأمور التي نقلق بشأنها اليوم، مثل الأمان والأمن والأمن الاقتصادي."

وهي ترى أنّ عدد سكان سوريا كبير جداً بالنسبة لمستوى الخدمات المتوافرة. وقد أضعف النزاع شبكة الأمان الاجتماعي. وتابعت قائلة إنّ أشخاصاً كثيرين يواجهون صعوبات اليوم وينجبون الأطفال من دون أن يكون لديهم إمكانات للاعتناء بهم. وأردفت قائلة: "يحقّ لكل فرد إنجاب طفل لكن ربّما من الأفضل انتظار الظروف المناسبة." وأمِلَت راما أن تتبنّى في يومٍ من الأيام أحد الأطفال الذين تيتّموا أو تُركوا في البلد.

وقال سعيد (تمّ تبديل الاسم) البالغ من العمر 45 سنة، إنّ عدد سكان عُمان قليلٌ مقارنةً بالبلدان الأخرى في المنطقة، ولكنه يرتفع بسرعة ويبدو أنّ الأشخاص الذين لديهم إمكانات قليلة هم الذين ينشئون عائلات كبيرة. ويرى أنّ هذا الأمر لا يمثّل مشكلة ما دام اقتصاد البلد قوياً بما يكفي لتوفير فرص عمل خاصةً للعمال غير المؤهلين. وقال "أنا قلقٌ حيالَ ما سيحصل إذا حدث ركودٌ في الاقتصاد وخسر الأشخاص وظائفهم، وأنا قلقٌ بشأن كيفية تأثير المستوى المرتفع لبطالة الشباب في الاستقرار."

ويبرز موضوعٌ أساسي يتمثَّل في أنّ القلق بشأن حجم السكان ما هو في غالبية الأحيان إلا قلق بشأن القدرة على توفير نوعية حياة جيدة للجميع.

وقال خالد البالغ من العمر 51 سنة إنّ المشكلة في بلده اليمن هي أنّ النمو السكاني يتجاوز "النمو الإنمائي". وتابع أنّ لدى اليمن عدد كبير وسريع الزيادة من السكان البالغين سن العمل حالياً، وأنّه يجد أنّ البلد قد يشهد نمواً اقتصادياً أسرع في حال كان الشباب مثقفين وبصحة جيدة وقادرين على إيجاد وظائف جيدة. وقال إنّه من الضروري أن تشارك النساء على وجهٍ خاص بشكلٍ أكبر في تنمية البلد. وأضاف قائلاً: "إذاً يمكن أن يأتي سكّاننا بمنافع كثيرة." وقال خالد البالغ من العمر 51 سنة إنّ المشكلة في بلده اليمن هي أنّ النمو السكاني يتجاوز "النمو الإنمائي". وتابع أنّ لدى اليمن عدد كبير وسريع الزيادة من السكان البالغين سن العمل حالياً، وأنّه يجد أنّ البلد قد يشهد نمواً اقتصادياً أسرع في حال كان الشباب مثقفين وبصحة جيدة وقادرين على إيجاد وظائف جيدة. وقال إنّه من الضروري أن تشارك النساء على وجهٍ خاص بشكلٍ أكبر في تنمية البلد. وأضاف قائلاً: "إذاً يمكن أن يأتي سكّاننا بمنافع كثيرة."

الصورة بواسطة إيديل أونر

الشباب يرسمون مساراتٍ جديدة

هناك حوالي شخص واحد من بين كل ستة أشخاص في العالم بعمرٍ بتراوحُ بين 15 و24 سنة، وتنمو التركيبة الشبابية بسرعة، خاصةً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وينظر بعض واضعي السياسات إلى هذا الاتجاه بعينٍ من الحذر، إذ لا يجدون فيه سوى إمكانية نشوب اضطرابات سياسية وأعمال عنف. ويعتبر استمرار القوالب النمطية السلبية عن الشباب مشكلةً ينبغي حلّها وتهديداً ينبغي احتواؤه، وذلك وفقاً لدراسة السلام المفقود، وهي دراسة مرحلية مستقلة بشأن خطة الأمم المتحدة للشباب والسلام والأمن (Simpson, 2018).

غير أنّ الشباب حول العالم اليوم ليسوا المشكلة، بل يشكّلون على نحو متزايد جزءاً من الحلّ. ووفق دراسةٍ أجرتها الأمم المتحدة، يتحدّى الشباب الوضعَ الراهن في العديد من القطاعات، عن طريق أعمالهم الإبداعية و"المناصرة الجريئة". فإبداع الشباب أعاد رسمَ الثقافة والفنون. ودافعت الحركات الشبابية عن التنوع وحقوق الإنسان. وكان الحراك الحيوي مضاداً لليأس.

قالت إيديل أونر البالغة من العمر 24 سنة والتي تدير المبادرة الرئيسية لمكتب مبعوث الأمين العام المعني بالشباب من أجل الاعتراف بالقادة الشباب الاستثنائيين لأهداف التنمية المستدامة: "إنّ الزخم حول الخطة العالمية للشباب أكبر من أي وقت مضى". وتوضح أونر أنّ الشباب حول العالم يحدثون تغييراً، رغم أنَّ رأيهم نادراً ما يكون مسموعاً في اجتماعات متّخذي قرارات السياسة العامة تقليدياً.

وفي حين أنّ قرابة نصف سكان العالم هم دون سنّ الثلاثين، فإنّ متوسط عمر القادة السياسيين هو 62 سنة (Office of the Secretary-General’s Envoy on Youth, 2022). وفي بعض البلدان، يكون الحدّ الأدنى لسنّ الترشح على منصب عامٍ 40 سنة. وبالتالي، سُنَّت معظم القوانين على يد أشخاص لديهم نظرة إلى العالم مختلفة جوهرياً عن نظرة الأشخاص الذين كبروا في عالمٍ سريع الحركة ويواجه الأزمات ويعتمد على الإنترنت ويتألّف من 8 مليارات نسمة.

تضيف أونر قائلة: "بالنسبة إلى الأجيال التي سبقتنا، كانت السلطة أمراً استثنائياً. فقد كانت هرمية وبيروقراطية ورسمية ومؤسساتية." ولكن تقول إنّ غالبية شباب اليوم يرَوْن أنَّ "السلطة تعني الشفافية والسرية. والسلطة مَرِنة، وليست هرمية. وتكمن السلطة في التعبئة... فبطُرُقٍ مختلفة، يرسم الشباب فعلاً مستقبلهم من خلال إعادة تخيّل الطريقة التي تُشغَّل فيها نُظُمنا ومن خلال طلب الحصول على السلطة الحقيقية - تشارُكها بين هذه النُّظُم."

وعلى سبيل المثال، قال غيبسون كاواغو البالغ من العمر 24 عاماً، وهو رجلُ أعمال معني بالمناخ ومذيع على الراديو ومرشد للشباب في جمهورية تنزانيا المتحدة: "ينبغي أن يحدّد كلّ شخص مشكلةً ما يجدها في مجتمعه وأن يتوصّل إلى حلٍّ مناسبٍ لها. وهي طريقة سهلة لنا من أجل إيجاد حلول للمستقبل."

وعندما كان يبلغ 14 سنة، اخترع بطارية شمسية لمساعدة أفراد قريته التي لا تصل الكهرباء إليها. ولاحقاً بمساعدة من حاضِنة أعمال، أنشأ شركته الخاصة "واغا تانزانيا" (WAGATANZANIA). وتختصُّ الشركة في إعادة تدوير بطاريات أيونات الليثيوم وإنتاج منتجات دائمة وبأسعار معقولة وتعمل على البطارية. ومنذ عام 2019، أعادت شركة "واغا" تدويرَ أكثر من 3100 بطارية أيونات الليثيوم واستحدثت 32 وظيفة، مع إبقاء المواد الخطيرة خارج البيئة. وعلاوةً على ذلك، تصلُ عزيمة كاواغوورسائله التمكينية إلى مستمعي الإذاعة البالغ عددهم 12 مليون شخص تقريباً.

ويتمتع قائدٌ آخر شاب يبلغ من العمر 24 سنة ويُدعى بول ندهلوفو من زمبابويبتأثيرٍ كبير. وفي منظمة "زفانديري" (Zvandiri) التي تعني "كما أنا" في اللغة المحلية)، وهي منظمة توفر دعماً بقيادة الأقران الشباب المصابين بفيروس العوز المناعي البشري، أنتجَ ندهلوفو حوالي 100 برنامج إذاعي وصل إلى ما يُقدّر بحوالي 180,000 شخص على مدى الأشهر العشرة الأخيرة. ورأى ندهلوفو التغيّرات السكانية تسترشد بالبرنامج وبدعوات الفريق. وشدّد قائلاً: "كلُّ هذا العمل هو جهدٌ مشترك".

وتشير هذه القصص إلى ما يمكن أن يحقّقه الشباب تُدعَم مواهبهم وعندما يُشمَلون في عمليات اتخاذ القرارات. وتنوّه أونر قائلة: "في نهاية المطاف، نحن الأكثر تأثراً في الخيارات التي نقوم بها أو لا نقوم بها اليوم".

© الصورة بواسطة صندوق الأمم المتحدة للسكان/مولوجيتا آيين

بفضل استخدام وسائل منع الحمل خِفيةً، تتحدّى النساء سلطةَ الرجال على القرارات بشأن الإنجاب

أمسالو، وهي عاملة في مجال إرشاد الرعاية الصحية، تجول على المنازل في الجولات التي تقوم بها في المناطق الريفية في إثيوبيا، من أجل تقديم وسائل منع الحمل للنساء اللواتي يتعذّر عليهنَّ الحصول عليها بطُرُقٍ أخرى. ويعرف أزواج العديد من زبائنها عن وسائل منع الحمل – ولكن القليل منهم لا يدرون بها.

وتقول أمسولو، البالغة من العمر 36 سنة، والتي بدأت هذا العمل منذ 14 عاماً: "هؤلاء النساء هنّ أصلاً أمّهات لثلاثة أو أربعة أطفال.". ويُخبِّئنَ وسائلَ منع الحمل لأنّ الزوج يريد المزيد من الأطفال ولكن الزوجة ترى أنَّ لديها ما يكفي أو تودّ ببساطة أن تستريح."

ويُقدَّر أنّ 7 في المائة من النساء المتزوجات اللواتي يستخدمن وسائل منع الحمل في إثيوبيا يستخدمنها بالخفية (PMA Ethiopia, n.d.). ومع ذلك، لا يقتصر الاستخدام الخفي على إثيوبيا. فهو يحدث في العديد من البلدان، إذ تشير أحدث التقديرات من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى إلى أنّ نسبة النساء اللواتي يلجأنَ إليه تتراوح بين 5 في المائة في كانو بنيجيريا، وأكثر من 16 في المائة في بوركينا فاسو(Sarnak and others, 2022).

وعادةً ما تلجأ النساء إلى الاستخدام الخفي تصدّياً لمعارضة أزواجهنّ. ويظنّ بعض الرجال أنّ استخدام المرأة وسائلَ منع الحمل يعني أنّها على علاقة غرامية. في حين أنّ رجالاً آخرين يعترضون على وسائل منع الحمل لأنّهم يعتقدون أنّها تؤذي صحة زوجاتهنّ. ويقول البعض إنّها مخالفة لمعتقداتهم الدينية. ومع ذلك، يرغب رجالٌ آخرون في أن تواصل زوجاتهنّ إنجاب الأطفال. وفي كثيرٍ من البلدان، تبدو النساء أقل ميلاً إلى التمتع بالسلطة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالرعاية الصحية (Smith and others, 2022). وهذا يعني أنّ الرجل يترك زوجته أمام خيارَين وحيدَين عندما يمنعها من استخدام وسائل منع الحمل، فإمّا أن تكون مطيعة ولا تستعمل هذه الوسائل، أو أن تستخدمها بالخفية.

تقول أمسالو إنّ النساء في منطقتها يفضلنَ وسائل منع الحمل القابلة للحقن لأنّها تدوم لثلاثة أشهر وليست ظاهرة للعيان. وترى جليلة، سيدة تعمل في تقديم خدمات تنظيم الأسرة، أنَّه على الرغم من ذلك، إنّ النساء اللواتي يعِشن في عاصمة إثيوبيا ويخفينَ وسائل منع الحمل عن أزواجهنّ، يُفضِّلنَ الوسائل التي تُغرَس تحت الجلد واللولب (العواقم الرحمية). وتقول: "قد يُطلَب منّا أن نخبئ الندوبَ التي تظهر بعد وضع وسائل منع الحمل التي تُغرَس تحت الجلد لكي لا يراها أزواجهنّ."

فالنساء يخفينَ وسائلَ منع الحمل بسبب الخوف، ذلك أنَّهنَّ يعتمدْنَ على أزواجهنّ ويخفنَ ممّا قد يحصل إذا كُشِفَ أمرهنّ. والعواقب قد تشمل كلّ شيء من العنف حتى الطلاق. أتذكّر في إحدى المرات، أحضر رجلٌ زوجته إلى العيادة وطلب مني أن أزيل وسيلة منع الحمل المغروسة تحت الجلد من هنا على الفور."

بالرغم من المخاطر التي ينطوي عليها هذا الاستخدام الخفيّ، إلا أنّ بعض النساء لا يزلن يفضّلنَه للتصدي لما يسمّى "الحمل القسري"،حسب شانون وود، وهي باحثة في جامعة جون هوبكنز، وتدرس العناصر الاجتماعية المحدِّدة لصحة النساء، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والنواتج السلبية على الصحة الجنسية والإنجابية. ويُقدَّر أنّ امرأة واحدة من بين كل خمس نساء إثيوبيات بعمرٍ يتراوح بين 15 و49 سنة قد واجهت الحملَ القسري، الذي يمكن أن يحصل عندما يمتنع الرجل عن تنظيم الأسرة، أو يأخذ وسائل منع الحمل من المرأة، أو يهدّد بالتخلّي عن الزوجة في حال لم تحمل، أو يضربها بسبب عدم موافقتها على الحمل(Dozier and others, 2022).

بالرغم من أنّ الاستخدام الخفي لا يزال قائماً في عاصمة إثيوبيا وفي المناطق الريفية، تقول جليلة وأمسالو إنّهما تريان المستويات تنخفض اليوم عمّا كانت عليه منذ عقدٍ أو عقدَين. وتقول أمسالو: "إنّ الرجال في أيامنا هذه أكثر انفتاحاً وتفهّماً."

وأمّا جليلة، فتقول: "في الحالة المثالية، سيناقش الزوجان استخدامَ وسائل منع الحمل، ولكن في حال لم يتَّفقا، تتَّخذ المرأةُ القرارَ وتستخدمُ هذه الوسائل حتى لو كان زوجها غير موافق. فهذا الأمر يمكّنها من القيام بما يلزم لتحديد توقيت حملها والفترات الفاصلة بين حملٍ وآخر."

الصورة بواسطة برنامج حزمة الصورتين على موقع أنسبلاش

تنظيم الأسرة: استراتيجية للبقاء على قيد الحياة في ظل تغيّر المناخ

بالنسبة إلى بعض الناس، قد يكون تنظيم الأسرة مسألة حياة أو موت. فعندما لا تتوافر الموارد المالية لإطعام المزيد من الأطفال، يكون الإبقاء على أسرة صغيرة الحجم طريقة لتكيّف النساء مع الوضع. وهذا حال بيلا جوديت التي تعيش في منطقة "غران سود" (Grand Sud) أي الجنوب الكبير بمدغشقر، وهي منطقة تعاني حالياً من أكثر مواسم الجفاف حدّة منذ 40 سنة (Kouame, 2022;).

وتقول: "اعتدتُ على زراعة المنيهوت وغيرها من الحبوب، وكان الأطفال يذهبون إلى المدرسة في الوقت الذي كنّا فيه نهتمّ بالحقول."

وهي حياة تكاد تتذكّرها المرأة البالغة من العمر 25 سنة. وتتابع قائلة: "لقد غيّر الجفافُ أموراً كثيرة، فاليوم، كلّ شيء صار باهظَ الثمن – لا سيّما الطعام والمياه. فاضطُررنا إلى إيقاف اثنَين من أطفالنا من الذهاب إلى المدرسة."

وتسبّب الجفاف في نقص حاد بالأغذية لأكثر من مليون شخص. وبالنسبة إلى بيلا جوديت، تزامن الجفاف مع مأساة أخرى: فقد أُصيبَ زوجها بالمرض وأصبح مشلولاً جزئياً. فباعت الأسرة أرضَها لكي تدفع نفقات العلاج، وانتقلت إلى المدينة لإيجاد العمل. وحالياً، تُعدُّ بيلا جوديت المعيلة الوحيدة للأسرة، تغسل الثياب أو تنقل المياه مقابل الحصول على المال. وهي ترى أنَّ وسائل منع الحمل ضرورية. وتقول: "إنني لا أستطيع حتّى أن أطعم أطفالي الأربعة، لذلك إنجاب طفلٍ آخر ليس وارداً بعد الآن."

وبيلا جوديت ليست وحدها؛ فهناك الكثير من النساء اللوايت يخترنَ الحدّ من حجم أسرهنّ من أجل التصدي للكارثة المناخية (Staveteig and others, 2018). ولكن النساء يتَّخذنَ خياراتٍ مختلفة. تشير بعض الأدلة إلى أنّه في حين أنّ بعض النساء في بنغلاديش وموزامبيق يفضّلن عدم إنجاب الأطفال لأنّهنّ غير قادرات على إبقاءهم على قيد الحياة، ترغب نساء أخريات في زيادة حجم أسرهنّ بإنجاب ابنٍ واحد على الأقل، الأمر الذي يعدّ مساعدةً في ضمان الأسرة (IPAS, n.d.).

وبالنسبة إلى فولاتاناي التي تبلغ من العمر 43 سنة، لم يكُن الاعتماد على رجل خياراً بالنسبة إليها في يومٍ من الأيام. وهي تعمل كبائعة متجوّلة في مدينة ماجونغا بمدغشقر، على بُعد أكثر من 1,500 كيلومتر من أطفالها الأربعة الذين يعيشون مع والدَيها. وتتحمّل فولاتاناي وحدها، بعدما تركها أب أطفالها، مسؤوليةَ جني الأموال لكي ترسلها إلى البيت وتُطعِم أطفالها.

وفي ماجونغا، كانت على علاقة برجل تبيّن أنّه يسيء معاملتها. وتقول: "كان يضربني. ولذلك، لا يمكنني أن أسمع في أذني اليُسرى، ولا أسمع جيداً في أذني اليُمنى، ولا يمكنني أن أرى جيداً بعيني اليُسرى." وبسبب الإصابات، صارت تُجاهد لتدبير أمورها. وهي ترى أنَّ وسائل منع الحمل أساسية – لمستقبلها ومستقبل أطفالها.

وتتابع قائلة: "كيف سأتمكّن من إطعام طفلٍ آخر في ظلِّ مواسم الجفاف؟ فأنا بالكاد أستطيع إطعامَ أطفالي الأربعة. ومنذ أن بدأت مواسم الجفاف، أصبحت خائفةً جداً من الحمل مجدداً... والحمد لله أنّ تنظيم الأسرة لا يزال متاحاً حيث أعيش.".

مصدر الصورة: إيرينا فوسو

جذب العائدين إلى دول البلقان

يشير مصطلح "العائدون" إلى الأشخاص الذين يعودون إلى بلدانهم الأصلية بعد هجرتهم منها. وتعمل بعض المناطق في أوروبا الوسطى والشرقية – وفي منطقة ذات معدلات ولادات منخفضة ومعدل اغتراب داخلي مرتفع – على إقناع المهاجرين بالعودة إلى بلدانهم الأصلية، آملةً أن تشهد نمواً سكانياً وأن تبني قدرتها على الصمود الديمغرافي.

وإنَّ عددَ مواطني دول البلقان في الشتات هائلٌ على سبيل المثال. ونظراً إلى أنّ قرابة 53 في المائة من الأشخاص المولودين في البوسنة والهرسك و45 في المائة من المولودين في ألبانيا و12 في المائة من المولودين في صربيا يعيشون خارج بلدانهم (Migration Data Portal, 2021)، لا عجب في أنَّ الحوافز التي تقدّمها الحكومات لا تجذبهم. توفر خطة "أختارُ كرواتيا" (I Choose Croatia) إعانات بقيمة تصل إلى 26,000 يورو للكروات الذين يعودون إلى بلدهم الأصلي وينشئون مشاريع تجارية (Hina, 2022). وضعت صربيا مجموعةً متطوّرة من الإعفاءات الضريبية ومساعدات للشركات الناشئة واستقطاب المجمعات التكنولوجية، وتنفذ مولدوفا برنامج "PARE 1+1" الذي يربط الاستثمارات الخاصة بالأعمال الجديدة التي يبدأها العائدون (ODA, 2013).

وتقول إيرينا فوسو، وهي طبيبة أسنان عادت من روسيا منذ خمس سنوات، "تلقَّيتُ المساعدة من ثلاثة برامج مختلفة في مولدوفا، ولم يقتصر الأمر على المال، فأنا طبيبة ولا أعرف كيفية الإدارة، لذلك حصلتُ على مساعدة حكومية عن طريق دورات الأعمال." وحصدت عيادتها "دا فينشي" للأسنان جائزة "أفضل عيادة أسنان" في عام 2020.

وليست الحكومات الوطنية وحدها التي تساعد في عودة الأشخاص. ففي صربيا، أُنشِئت منظمة غير حكومية، اسمها نقطة العودة (Returning Point) ومهمّتها إرساء بيئة أفضل للعائدين. وتقول إيفانا زوباك، وهي مراقبة مالية قضت 20 سنة في أوروبا الغربية، "عندما قررتُ أن أعود إلى صربيا، لجأتُ إلى منظمة ’نقطة العودة‘، وانتهزتُ الفرصة لأرى الأمور كما هي هنا، وأصبحت نوعية حياتي الآن أفضل بكثير." وتساعد زوباك حالياً في إرشاد الصرب العائدين حديثاً.

وعادت يلينا بيريتش أيضاً إلى صربيا، وهي ممرضة متخصصة في طب الأطفال كانت تعمل في ميونيخ منذ عام 2011 قبل أن ترجع إلى بلدها. غير أنها تلقّت الدعمَ من مصدرٍ آخر وهو: وكالة المساعدة الألمانية (GIZ). وتقول: "أردتُ مساعدة الأسَر في تثقيفها عن الرضاعة الطبيعية التي ليست شائعة جداً في صربيا"..

وتبحث بلدانٌ كثيرة عن حلول طويلة الأجل أيضاً. فعندما يكون لدى الأشخاص ضمانات بمستوى معيشي لائق ووظائف آمنة وواعدة، وتعليم جيد لأطفالهم، ورعاية صحية لائقة وبيئة تمكينية، تتقلّص بشدّة الأسباب التي تدفعهم إلى الهجرة من أجل الحصول على هذه الضمانات.

ويقول سيناد سانتيك إنّ تقوية القطاع الخاص تُساعد أيضاً في الاحتفاظ بالمهارات الشبابية.وهو يدير شركة "زينديف" (ZenDev) المتخصصة في تكنولوجيا المعلومات في موستار بالبوسنة والهرسك، ويرى أنّ وظائف العمل مثل الوظائف التي توفرها شركته وشركات مماثلة ستساعد الشباب في عدم مغادرة بلدهم.

ويقول سانتيك: "تقضي الفكرة بتهيئة ظروف في البلد الأصلي تحول دون رغبة الأشخاص في المغادرة في المقام الأول."

الصورة بواسطة دكتورة بارك

التوقعات بشأن أدوار النساء في العمل والبيت تدفع بمعدلات الزواج والخصوبة إلى مستويات منخفضة جديدة

تقول ييون سو، وهي طبيبة تبلغ من العمر 35 سنة في منطقة جيونج جي دو بجمهورية كوريا: "أنا مستعدّة للزواج إذا التقيت شخصاً يحترمني ولديه رؤية للزواج تشبه رؤيتي، ولكنني لا أشعر بحاجة إلى الزواج إذا لم ألتقِ شخصاً بهذه المواصفات."

وهي ليست وحدها، إذ يتراجع عدد الكوريين الذين يقدمون على الزواج اليوم. وأظهر مسحٌ يشمل الكوريين البالغين من العمر 30 سنة أجرته الجمعية الكورية المعنية بالسكان والصحة والرفاه، أنّ 30 في المائة من النساء – و18 في المائة من الرجال – يقولون إنّهم لن يتزوّجوا في المستقبل. وحالياً، يبلغ معدل الزواج أقل بثلثَي المعدل الذي كان عليه في ثمانينات القرن العشرين (Ki Nam Park, personal communication). أمّا الذين يتزوّجون، فهُم يُقدمون على هذه الخطوة في وقتٍ متأخر. وفي ثمانينات القرن العشرين، كان متوسط عمر الرجل والمرأة عند الزواج يبلغ 27 و24 سنة على التوالي. أمّا اليوم، فصار متوسط العمر 33 و31 سنة.

فمَن المسؤول عن هذا الاتجاه؟ وكما توضح ييون سو، يكمن أحد الأسباب في القلق الذي ينتاب المرأة حيالَ خسارة مهنتها بحيث تصبح أماً غير عاملة تتحمّل المسؤولية الكاملة للأعمال المنزلية ورعاية الأطفال. وتقول: "أظنّ أن أهمّ عنصر في الزواج هو ما إذا كان شريكي المحتمل يُكِنُّ لي كل الاحترام ويدعم مهنتي، ذلك أنَّ وضع المرأة قد يتغيّر بعد الزواج هنا في كوريا. فهي لم تعُد امرأة، بل زوجة وأمّ وزوجة ابن شخص ما."

ولا تختلف ييون سو بالرأي عن آلاف الكوريات اللواتي يرفضن الآراء القديمة عن الزواج التي تقضي بأنّه واجب يترافق بمسؤوليات لبناء أسرة وإدارة بيت وخضوع زوجة الابن، وإنّما أصبحت الكوريات أكثر ميلاً إلى رؤية الزواج كخيارٍ لا ينطوي على التضحية بالشهادات الجامعية ولا بالحياة المهنية.

وتوضح كي نام بارك، وهي الأمينة العام للجمعية الكورية المعنية بالسكان والصحة والرفاه، أنّ عدد الزيجات القليلة والمتأخرة يمكن أن يعزى جزئياً إلى عدم استقرار سوق العمل، حيث يكون لدى النسبة الكبرى من الشباب، ولا سيَّما النساء، وظائف مؤقتة أو بدوام جزئي. وتشرح قائلةً: "إنّ حوالي 72 في المائة من النساء حاصلات على شهادة جامعية على الأقل. وإنَّ ارتفاع العمر في الزواج الأوّل يبيّن اتجاهاً اجتماعياً يستثمر فيه الشباب مزيداً من الوقت في خلفياتهم الأكاديمية وفي الاستعداد للوظائف ويريدون فيه إعطاءَ الأولوية إلى إيجاد وظيفة جيّدة والتمسّك فيها."

ويترافق عدد الزيجات القليلة والمتأخرة بإنجاب عدد أقل من الأطفال. وتشرح بارك قائلةً إنّه خلافاً للكثير من البلدان المتقدمة الأخرى، يحصل إنجاب الأطفال في جمهورية كوريا داخل إطار الزواج بصورةٍ شبه حصرية. وبالتالي، نظراً إلى تسجيل معدلات زواج منخفضة قياسياً، فإنّ معدَّل الخصوبة البالغ 0.81 ولادة في البلد هو الأدنى في العالم.

وتقول بارك إنّ تراجع عدد الولادات يشكّل إنذاراً لبعض واضعي السياسات لأنّه يعني أنّ شريحة السكان الأكبر سناً تشيخ ولأنّ تغطية تكاليف الرعاية والخدمات الصحية لها "ستكون عبئاً هائلاً على جيل الشباب، فإذا تناقص عدد السكان الإجمالي، سينخفض الإنتاج والاستهلاك، وينكمش الاقتصادي وستتراجع حيوية المجتمع في نهاية المطاف."

وتتداخل معدلات الزواج والخصوبة المنخفضة في البلد مع السلوكيات غير العادلة جنسياً بشأن الوظائف وتنشئة الأطفال والأعمال المنزلية. والمكاسب في الفرص المُتاحة خارج إطار الزواج – في سوق العمل والمجتمع الأوسع – إلى جانب ارتفاع التكاليف المرتبطة بتربية الأطفال، تعني كلّها اليوم أنّ "حزمة الزواج" التقليدية، التي تقضي بأن تتخلى المرأة عن وظيفتها وتبقى في البيت وتربي الأطفال بينما يعمل الرجل لساعات طويلة ويخصّص وقتاً قليلاً للأعمال المنزلية ورعاية الأطفال، قد خسرت اهتمامَ العديد من النساء الشابات، لا سيَّما النساء اللواتي لديهنّ مستويات عالية من التحصيل التعليمي، وذلك وفق أحدث دراسة أجرتها منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي بشأن تغيّر المجتمع بسرعة في جمهورية كوريا (OECD, 2019). وتقول الدراسة إنَّ الخصوبة تنخفض أيضاً بسبب استمرار الارتباط الشديد بين إنجاب الأولاد والزواج، ذلك أنَّ العقبات التي يواجهها الشباب حتى في إيجاد شريك في الوقت الذين يبنون فيه مكاناً لأنفسهم في سوق العمل تسهم كلّها أيضاً في ذلك.

جمهورية كوريا ليست البلد الوحيد الذي يترافق فيه عدد الزيجات القليلة والمتأخرة مع إنجاب عدد قليل من الأطفال. ففي اليابان أيضاً، بلغت معدلات الزواج أدنى المستويات تاريخياً، وتقول 25 في المائة من النساء في عقدهنّ الثالث إنّهنّ لا ينوينَ الإقدامَ على الزواج. وفي الوقت نفسه، يبلغ متوسط عدد الولادات لكل امرأة حوالي 1.34 ولادة.

فالكثير من الشابات اليابانيات، على غرار نظيراتهنَّ الكوريّات، يقُلْنَ إنّهنّ يتردّدنَ في قبول – أو رفض – الزواج وإنجاب الأطفال لأنّهنّ يرغبْنَ بالمحافظة على وظائفهنّ وتفادي عبءَ الأعمال المنزلية والرعاية غير المدفوعة الأجر.

وتقول هيديكو، وهي موظفة في مكتب في طوكيو وتبلغ من العمر 22 سنة: "أودّ أنّ أتزوّج في يوم من الأيام ولكن في ظل ظروف معيّنة فحسب، فأنا أرغب في مواصلة عملي، ويجب أن اتشارك مع شريكي عبء الأعمال المنزلية وتنشئة الأطفال".

وتوضح ساواكو شيراهاسي، وهي أخصائية ديمغرافية اجتماعية والنائبة الأولى لرئيس جامعة الأمم المتحدة في طوكيو، أنّ الكثير من النساء اللواتي يفكّرن في الزواج يعتبرنَ تكاليف الفرصة باهظة الثمن. وتقول إنّ الخيار المعتاد الذي يجب أن تقوم به النساء يقع بين احتمالَين. "الخيار ألف أو الخيار باء: أي المحافظة على وظيفتِكِ أو الاهتمام بأسرتِكِ."

وتردف أنّ أسباباً اقتصادية تؤثر أيضاً في القرارات المتعلقة بالإقدام على الزواج وتكوين أسرة. فالشباب يفضّلون عدم الزواج أو تأسيس أسرة إلى أن تسمح لهم الإمكانات المادية بذلك، وبالتالي يزداد بلوغ هذا الهدف صعوبةً نظراً إلى أنّ الكثير من الشباب يعيشون اليوم في ظل ظروف عمل غير مستقرة. وتقول شيراهاسي: "إنّ إنجاب الأطفال وتربيتهم مكلفٌ في اليابان، فغالباً ما تكون تكاليف تعليم الأطفال في مدارس جيّدة مرتفعة جداً بالنسبة إلى الأُسَر ذات الدخل الواحد."

ولكن من الذي سيتهمّ بالأطفال ويقوم بجميع الأعمال المنزلية؟" إذا كان الوالدان يعملان ليتمكَّن الأطفال من الذهاب إلى مدارس جيدة. وتشرح قائلةً إنَّ "العادة درجت في التوقُّع من المرأة أن تتحمّل بنفسها كلّ المسؤوليات العائلية هذه."

وبالنسبة إلى بعض الأزواج الذين يظنّون أنَّهما جاهزان للزواج وإنشاء أسرة، ربّما فات الأوان لإنجاب الأطفال بالنسبة لهم. فحسب نتائج المسح الياباني للخصوبة، قرابة واحد من كل أربعة أزواج في اليابان قد أجرى اختباراً وخضع لعلاجٍ للعقم (National Institute of Population and Social Security Research, 2022). وعلاوةً على ذلك، يمكن لبعض النساء في عقدهنّ الرابع ألّا يتمتّعنَ بفرصة تأسيس أسرة لأنّ الرجال قد لا يرغبون في الزواج من شخص يظنّونه غير قادر على إنجاب الأطفال.

ونفَّذ واضعو السياسات في كلّ من اليابان وجمهورية كوريا إعفاءات ضريبية واتّخذوا تدابير أخرى، مثل توسيع نطاق الحصول على رعاية الأطفال بأسعار معقولة، من أجل تسهيل إنجاب الأطفال للأزواج الذين يرغبون في ذلك. ولكنّ إزالة بعض العقبات التي تعيق الزواج وتأسيس الأسر قد يستغرق أجيالاً وأجيال. وتقول شيراهاسي إنّ هذا الأمر في اليابان سينطوي لا محال على تغيير جذري للمعايير المترسِّخة وكذلك النُّظُم الاقتصادية لكي تكون أكثر مراعاةً للمساواة بين الجنسَين وتلائم التوازن بين الأسرة والمهنة.

وتقول نتسوكو، وهي قابلة تبلغ من العمر 32 سنة في يوكوهاما، إنّها ترغب في يومٍ من الأيام في قضاء حياتها مع شريك وإنجاب الأطفال، ولكن الزواج والإنجاب قد يؤثران كثيراً في خطة حياتها المهنية. وتقول: "هذا التغيير لن يطرأ أبداً على حياة الرجل."

وبالمثل، تقول الدكتورة بارك في جمهورية كوريا: "المطلون هو تهيئة جوّ اجتماعي يشارك فيه الرجال بنشاط في الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال". وتتابع أنّ في الوقت نفسه، يتمثّل جزءٌ كبيرٌ من المشكلة في التمييز بين الجنسَين في الوظائف والأجور.

وتقول ساوري كامانو، وهي عالمة اجتماع في المعهد الوطني للبحوث بشأن السكان والأمن الاجتماعي في اليابان، إنّه لا يمكن إجبار الأشخاص على الزواج وإنجاب الأطفال، ولذلك "يجب تغيير النُّظُم والمؤسسات وكذلك الأعراف"، مع البدء بتبديل السلوكيات المتعلقة بأدوار الجنسَين. وتختم قائلة: "سيستغرق ذلك وقتاً طويلاً، ولكنّ أحدث مسح وطني بشأن الخصوبة يُظهر بوادر التغيير."

الصورة بواسطة ديانا دونتو

أماكن عمل مراعية للأسرة من أجل دعم الصمود الديمغرافي

عندما اكتشفت ديانا دونتو، في مولدوفا، أنّها حامل بثلاثة توائم، طلبت من رئيسها وضعَ ترتيبات عمل مرنة. ووافق عليها – فقد درجت هذه الترتيبات خلال جائحة كوفيد-19، وكانت وجيهة من الناحية الاقتصادية للاحتفاظ بالموظفين من ذوي المهارات. وعملت دونتو من البيت بعد الولادة وفي وقت لاحق صارت تذهب إلى المكتب ثلاثة أيام في الأسبوع بصفتها المديرة التنفيذية لشركة الحلويات "بانيلينو". وتقول: "من دون هذه السياسات، لكنتُ وجدتُ شركةً أخرى أو بقيت في المنزل".

وفي الوقت الذي كان فيه أطفالها يكبرون، كانت دونتو قادرة على إرسالهم إلى مركز رعاية نهارية في مباني شركة "بانيلينو". وتقول: "الآن، إذا تعرَّض أحد أطفالي لأس أمر في حين تواجدي في العمل، أذهب ببساطة إلى المركز وأراهم".

وتعدّ تجربتها استثناءً وليست قاعدة في هذه المنطقة، حيث غالباً ما تضطرّ النساء إلى الاختيار بين المهنة والأسرة. وبيّن مسحٌ حديثٌ أُجري في مولدوفا أنّ 9 نساء من أصل 10 نساء أمّهات لأطفال دون السنّ الثالثة يبقينَ في البيت (UNFPA and Ministry of Labour and Social Protection of the Republic of Moldova, 2022). ويسبّب الافتقار إلى السياسات "المراعية للأسرة" تداعيات غير مباشرة: فغالباً ما ينجب الأشخاص الأطفال بعددٍ أقل مما يريدونه، الأمر الذي يُخفِض معدلات الولادة. وعلاوةً على ذلك، إنّ الأعمال التي تواجه أصلاً تقلّص عدد العمّال بسبب الاغتراب الداخلي، لا تستطيع الاستفادة من مهارات النساء اللواتي لا يستطعْنَ دخولَ سوق العمل مرة جديدة بعد الولادة.

ومن خلال برنامج تموّله النمسا ويدعم السياسات الأسرية التي تراعي المنظور الجنساني في مولدوفا ودول البلقان، قدّم صندوق الأمم المتحدة للسكان النصائح لمديري شركة "بانيلينو" بشأن كيفية إعداد أماكن عمل تراعي الأسرة ووفَّر مِنَحاً للمساعدة في فتح مركز الرعاية النهارية. وتُظهر الأدلّة أنّ سياسات من هذا القبيل – تلك المنفَّذة على المستوى الوطني والمنفَّذة من قِبل القطاع الخاص – تُعدُّ أدوات قوية لتغيير المعايير المتعلقة بالنوع الاجتماعي التمييزية ولإعادة توزيع عمل الرعاية غير المأجور لكي يتمكّن كلٌّ من الرجال والنساء من تحقيق تطلّعاتهم المهنية من دون التخلي عن إنجاب الأطفال. وفي حين أنّ الهدف الرئيس يتمثّل في السماح للمزيد من الأشخاص بتحقيق توازن بين العمل والحياة الأسريّة، فهذا الأمر يساعد أيضاً في التخفيف من الضغوط التي يمرّ بها الشباب الذين يبحثون عن فرص عمل خارج البلد.

وألبانيا هي بلدٌ آخر في المنطقة يتبع سياسات مراعية للأسرة تشمل إعانات مهمّة للإجازة الوالديّة – لكلّ من النساء والرجال (UNFPA Albania and IDRA Research and Consulting, 2021). ولكن بالرغم من أنّ الإجازة الأبويّة متاحة، يختار بعض الرجال الاستفادة منها. وفي جنوب شرق أوروبا ، يقول 3 في المائة فقط من الرجال إنّهم حصلوا على إجازة أبوية (UNFPA and IDRA Research and Consulting, 2022).

ويشير أرديت داكشي، حسب تجربته، إلى سببٍ واحد على الأقل يكمن وراء هذه الظاهرة. وقد سهّل له عمله كمهندس نظام في تيرانا العملَ من البيت عندما أنجبت زوجته توأماً. ويقول: "في البداية، سخر زملائي في العمل منّي." ومع ذلك، يضيف: "عندما رأى زملائي في العمل جميع المنافع، بدأوا يستخدمون إجازة الأبوة أيضاً.

ويسجّل عدد السكان في العديد من بلدان أوروبا الشرقية والوسطى تراجعاً سريعاً (Kentish, 2020). فتبدي بعض الحكومات قلقها حيالَ عدم تسجيل المزيد من الولادات وفي ظلّ عدم توافد المهاجرين إلى بلدانها، ستتعثّر اقتصاداتها ولن يتوفر لديها ما يكفي من العمّال الشباب من أجل الإسهام في نُظُم الدعم الاجتماعي التي يعتمد عليها سكّانها المسنّون.

ولجأت بعض البلدان إلى حوافز حكومية من أجل تشجيع الأشخاص على إنجاب المزيد من الأطفال. وتختلف الحوافر بشكلٍ كبير وتشمل مدفوعات للأُسَر التي تنجب المزيد من الأطفال، وإعفاءات ضريبية للأُسَر الكبيرة، وإعانات للإسكان والسيارة، إضافةً إلى منح جوائز للأمهات اللواتي يُنجبنَ أكثر من خمسة أطفال. غير أنّ التجربة مع "المكافآت لعدد الأطفال" أظهرت أنّ الحوافز النقدية أو الإعفاءات الضريبية بحد ذاتها، ولا سيَّما عندما تكون متواضعة، لها أثر ضئيل على معدلات الخصوبة على المدى الطويل (Stone, 2020).

وإنَّ اعتمادَ نهجٍ قائمٍ على مزيد من الصمود يساعد الأزواجَ في التوفيق بين العمل والعائلة من أجل إنجاب عدد الأطفال الذي يرغبون فيه.

وتدعم البيانات والدراسات قيمة التمتّع بأماكن عمل مراعية للأسرة و إجازة أبوة طويلة ومنصفة؛ ففي هذه الظروف، تحظى النساء بمزيدٍ من فرص العمل ويشارك الرجال في الأعمال المنزلية (Armitage, 2019).

ويقولداكشي: "إنّ حصولي على إجازة الأبوة وتواصُلي مع بابنتيَّ يعدّ أهمّ شيء قُمتُ به في حياتي".

وبينما تجيب دونتو على اتصالٍ عبر تطبيق "زوم" (Zoom)، يرتمي ابنها ألكسندرو على حضنها. وتقول: "كان مريضاً قليلاً اليوم، لذلك أحضرتُه إلى المكتب. ولم أكن لأقوم بذلك من دون هذه السياسات المراعية للأسرة."

وبالنسبة إلى دونتو وداكشي، إنّ ظروف العمل المَرِنة والقابلة للتكيُّف صنعت كلّ الفارق.

© فيزكيس

يمكن التغاضي عن احتياجات الأزواج الذين لم يُنجبوا في عالمٍ يركّز على النمو السكاني

على مدى خمس سنواتٍ من الزواج، بدأت بات كوبشي بالتساؤل ما الخطب.

لماذا لم تحمل بطفلها الأوَّل بعد؟

وحتّى تلك اللحظة، لم تكُن تولي هذه المسألة اعتباراً كبيراً لأنَّها كانت تركّز على نيل شهادة الحقوق من جامعة أحمدو بيلو زاريا في ولاية كادونا في نيجيريا. ولكن ما إن أتمَّت دراساتها، بدأ الأشخاص حولها يتساءلون عن ذلك أيضاً. "لقد أتمّت دراستها الجامعية، ما الذي تنتظره الآن؟" وتتحدّث كوبشي عن الضغوطات.

ففي نيجيريا، تنجب المرأة خمسة أطفالٍ في المتوسّط على مدى حياتها. وتقول كوبشي: "في أفريقيا، تتزوَّج في وقتٍ معيَّن وإذا مرَّ 12 شهراً على زواجك وما زلت لم تنجب، فهذه مشكلة".

وذهبت كوبشي برفقة زوجها لاستشارة طبيبٍ أكّد أنَّ انسدادَ قناتَي فالوب كان يمنعها من الحمل.

في عام 1997 عندما علِمَت كوبشي بحالتها، كانت تكنولوجيا المساعدة على الإنجاب تتوفر للتوّ في نيجيريا. فذهبت لزيارة عيادةٍ أعطتها الأمل – وهو الإخصاب الأنبوبي. وكانت التكاليف باهظة آنذاك. تقول كوبشي: "كان الناس يشعرون بالتشاؤم حيال العملية، فهي تقنية جديدة وباهظة التكلفة. هل يجب أن أصرف كل هذه الأموال؟"

غير أنَّ الزوجَين قرّرا أنَّ احتمال إنجاب طفل كان يستحقُّ الإنفاق والتعرُّض لخطر عدم نجاح الحمل. وفي النهاية، أدَّت العملية إلى نقل أربعة أجنّة مُلقَّحة، إحداها أدّى إلى ولادة ابنتها هاناتو في عام 1998، وهي أوَّل "طفلة أنبوب" معترف بها علناً في نيجيريا.

يقول الدكتور إبراهيم وادا، طبيب التوليد والأمراض النسائية الذي عالج كوبشي، إنَّ "الطفل هو جائزة الحياة وماستها، ويدفع الناس الغالي والنفيس من أجل إنجاب طفل".

غير أنَّ الدكتور وادا يقرّ أنّ الإخصاب الأنبوبي غالباً ما يكون بعيد المنال لدى الأزواج الذين يعانون العقم. فكلفة الدورة الواحدة من الإخصاب الأنبوبي في نيجيريا تتراوح بين 2,000 و3,000 دولار أمريكي (مركز Fertility Hub Nigeria، تاريخ غير محدَّد) في حين يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 2,100 دولار أمريكي (World Bank, n.d.). وبهدف المساعدة، أنشأ الدكتور وادا مؤسسة تغطّي كل عام جميع أو بعض التكاليف العلاجية لما يقرب من 250 دورة إخصاب أنبوبي.

ويقول الدكتور وادا: "لقد التقَيتُ الكثير من الأشخاص الذين يمرّون بظروفٍ صعبة جداً في بيئاتٍ شحيحة الموارد، تشعر بثقل هذه المشكلة عندما ترى أنَّهم وصلوا إلى حائطٍ مسدود".

فبعض الأزواج الذين ليس بمقدورهم الوصول إلى الرعاية أو تحمُّل تكايفها، يلجأون إلى علاجات عقم تقليدية وغير مُثبَتة ومحفوفة بالمخاطر. ويقول الدكتور وادا إنّ بعضاً منها يشتمل على العلاجات المُستخلَصة من النباتات، فإنّ بعضها يحتوي على مواد مثل ملح الطعام وخمر الجين (Subair and Ade-Ademilua, 2022)، أو حتى على مواد "مسبّبة للتآكل"، ما قد يسبِّب ضرراً دائماً.

غالباً ما تُلامُ المرأة عندما تعجز عن الحمل في نيجيريا، رغم أنَّ العوامل الذكورية مثل العدد المنخفض للحيوانات المنوية، تؤدي دوراً في ثلاث حالات عقم بين كل خمس حالات في البلد (Umeora and others, 2008). الحمل والأمومة "مرتبطان ارتباطاً وثيقاً في غلافٍ من مفاهيم الأنوثة، وعقم الزوجة قد يوحي لها بأنَّها فشلت فشلاً ذريعاً كامرأة" (Olarinoye and Ajiboye, 2019). ويضيف الدكتور وادا أنَّ "النساء اللواتي لا يستطِعْنَ الإنجاب يعانينَ الوصم".

لقد أظهرت إحدى الدراسات التي تناولت النساء النيجيريات أنَّ 37 في المائة من شركائهنَّ الذكور أبلغوا أنَّ لديهنَّ زوجةً أخرى، وقال 12 في المائة من الأزواج إنَّهم يخططون للطلاق من زوجاتهم (Salie and others, 2021). بالنسبة إلى النساء، يمكن للطلاق أن يعني الإقصاء من الأسرة والمجتمع، وقد يعني أيضاً كارثةً اقتصادية بالنسبة للنساء اللواتي لا يتمتَّعنَ بالاستقلال المالي.

ولكن قد تتغيَّر المواقف وقد يزول بعض الوصم المرتبط به مع إقرار بعض الرجال بأنَّهم جزءاً من المشكلة – وحاجتهم إلى أن يصبحوا جزءاً من الحل. ويقول الدكتور وادا: "نرى اليوم أنَّ مزيداً من الرجال يرافقون النساء إلى العيادات المتخصصة بمشاكل الخصوبة، إذ لم يَعُد ’’الذنبُ ذنبها‘‘ وحدها؛ وكان من الصعب جداً أن ترى رجالاً يرافقون زوجاتهنّ إلى الاستشارات الطبية في عام 1994".

ومع ذلك، لا يزال الطريق طويلاً أمام نيجيريا وبلدان كثيرة للقضاء على النظرة التي تعتبر أنّ قيمة المرأة معتمدة على عدد الأطفال الذين تحملهم في أحشائها.

ويقول الدكتور وادا إنَّ إحدى الطُّرُق التي تسهّل الوصول إلى رعاية الخصوبة تكمن في البدء بمقاربة العقم بنفس الطريقة التي تتمُّ فيها مقاربة أي حالة طبية أخرى تتطلّب علاجاً، بدلاً من اعتبارها عمليات اختيارية مُتاحة لأولئك الذين بوسعهم تحمُّل تكاليفها.

في عام 1994، اتّفقت 179 حكومة في المؤتمر الدولي للسكان والتنمية على أنَّ "جميع البلدان" يجب أن تسعى إلى منحِ الجميع فرصة الوصول إلى رعاية الصحة الإنجابية، بما فيها "الوقاية من العقم والعلاج المناسب له"، من خلال نُظُم الرعاية الصحية الأوَّلية. غير أنّ بلدان قليلة، إن وُجدَت، حققت ذلك الهدف فعلاً.

وتتساءَل كوبشي "أليس من المثير للسخرية أنَّ الأشخاص هذه الأيام يُقلقهم إنجاب الكثير جداً من الأطفال، بينما هناك الكثير ممَّن يسعدون بإنجاب طفلٍ واحدٍ فقط؟"

الصورة بواسطة نيكول آدامز على موقع أنسبلاش, الصورة بواسطة لي آن ليم على موقع أنسبلاش

تصوُّر مستقبل أفضل

كان العلماء ينذرون طيلة الخمسين سنة الماضية بتداعيات تغيّر المناخ التي من شأنها أن تؤثر في مستقبلنا ذلك بسبب زيادة حالات الطوارئ وقُصْرِ الأُطُر الزمنيّة أكثرَ من أيّ وقتٍ مضى. وبعد سنواتٍ من الكوارث المناخية، أصبح هذا التهديد واقعاً راسخاً بعمق في نفوس الأجيال الشابة، ممّا دفع العديد من الشباب إلى التساؤل بشأن أهم المساعي البشرية المتمثلة بتكوين أسرة أو لا.

ففي عام 2021، وجدت جامعة باث في دراسةٍ هي الأكبر من نوعها، أنّ 39 في المائة من بين 10,000 شخص – تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة من 10 بلدان – يتردّدون بشأن إنجاب أطفال "بسبب تغيّر المناخ" (Hickman and others, 2021). وكانت النسب المئوية في البرازيل والفلبين (48 في المائة و47 في المائة، على التوالي) أعلى من النسب المئوية في بلدان شمال الكرة الأرضية. وأظهرت النتائج الرئيسية لاستطلاع مؤسسة مورنينغ كونسالت (Morning Conusult) في عام 2020 أنّ 11 في المائة من الراشدين الذين ليس لديهم أطفال في الولايات المتحدة يقولون إنّ تغيّر المناخ هو "سبب رئيسي" يمنعهم من إنجاب الأطفال حالياً (Jenkins, 2020).

ويفترض الخبراء التحذيريون بشأن السكان أنّ التخطيط لعدم إنجاب الأطفال هو جهدٌ يُبذَل بغية تجنّب الإسهام في انبعاثات غازات الدفيئة. ولكن أظهرت إحدى الدراسات التي أُجريَت في عام 2020 أنّ "القلق الذي يبديه البعض حول بصمة الكربون في الإنجاب يتضاءل أمام قلق المُجيبين حول قلقهم إزاءَ رفاه أطفالهم المولودين أو المفترضين أو الذين ينتظرونهم في مستقبلٍ يتغيّر فيه المناخ" (Schneider-Mayerson and Ling, 2020). وكتبت امرأة تبلغ من العمر 31 سنة، في الدراسة، "أرغب بشدّة في أن أكون أمّاً لكنّ تغيّر المناخ يزداد سرعةً ويؤدّي إلى فظائع شهدناها بالفعل لدرجة أنني أرى أنّ إنجابَ طفلٍ في هذه الفوضى هو أمرٌ لا يمكنني القيام به."

وسمعت جوزيفين فيروريللي لأوّل مرّة بتغيّر المناخ في أواخر ثمانينات القرن العشرين عندما كانت طفلة تبلغ ثماني أو تسع سنوات في الولايات المتحدة. وبدت التجربة خيالية بسبب الصمت المُطبَق — كالصمت المترافق مع المواضيع الممنوعة من التداول — بشأن قضيةٍ بهذا الحجم والتداعيات. فلماذا لم يكُن الناس يتحدّثون عنه؟ وعندما التقت منذ عقد بميغان كالمان، وهي عالمة اجتماع وناشطة تعمل حالياً كنائب عن ولاية رود آيلاند، قالت: "كان لدينا اهتمام مشترك بالنشاط المناخي وبعد ذلك أخذ اتجاهاً آخراً". فمعاً، أنشأت فيروريللي وكالمان شبكة Conceivable Future (مستقبل يمكن تصوّره) وهي وفق موقعها "شبكة أمريكية تقودها النساء من أجل إذكاء الوعي بالتهديد الذي يمارسه تغيّر المناخ على حياتنا الإنجابية وطلب وقف دعم الوقود الأحفوري الأمريكي."

وقالت فيروريللي: "كنّا نتوقع أنّ أشخاصاً آخرين بحاجة أيضاً إلى هذه المحادثة". وتبيّن أنّ هذا التوقع كان مبرّراً: فسأل مجهولٌ يبلغ من العمر 21 سنة على الموقع: "هل يمكننا أن ننجب ثلاثة أطفال وأن نكونَ صالحين حقّاً مع الأرض؟" وأضاف قائلاً: "إنني لا أزال آمل في أنّني إذا ربّيتهم بطريقة جيدة سيبنون مستقبلاً أفضل من الذي نراه يلوح أمامنا حالياً."

وتُطرَح أسئلة عديدة أيضاً مثل: "كيف نتحدّث مع الأطفال عن تغيّر المناخ؟ وكيف نحوِّل الشؤم؟ وهل إنجاب الأطفال هو فعلٌ أنانيّ؟ أو أنّ عدم إنجاب الأطفال هم فعلٌ أنانيّ؟ وإن لم يكُن لدينا أطفال، فأين نفرّغ الحبّ الذي نحمله في قلوبنا؟ وترفض المؤسِّستان الشريكتان إعطاءَ أجوبة شافية، خاصةً الأجوبة التي تولّد شعورَ الذنب أو تتّهم النمو السكاني العالمي بالتسبّب في تغيّر المناخ. وقالتا إنّ التشديد على التضحية والمسؤولية الفرديّتَين هو في غير موقعه ولا يُبرز الأسباب الفعلية المنهجية والواسعة النطاق لتغيّر المناخ أو الحلول الممكنة من أجل التصدّي له. وقالت كالمان: "إنّ منظّمتنا لا تتّخذ أي موقف على الإطلاق إزاءَ ما ينبغي أن يفعله الأشخاص فيما يتعلّق بحياتهم الإنجابية. فنحن ببساطة نتيح مساحةً للأشخاص كي يتحدّثوا عمّا يشعرون به".

وتشرح كالمان: "المهمّ بالنسبة إلينا هو: كيف نفهم هذا الأمر بطريقةٍ تأخذنا إلى مكانٍ أفضل بدلاً من أن نغرق في قلقنا بشأن هذا الوضع السيّء للغاية؟" وبالنسبة إلى المرأتَينِ، تكمن الإجابة الصحيحة الوحيدة في الإجراءات الحاسمة بشأن تغيّر المناخ. وتابعت كالمان قائلة: "يشكّل منظور الأطفال طريقةً للتحدُّث عن الموضوع والاتصال مع الجهات المعنيّة به وتحديد الشعور المرتبط به"، وتضيف أنّهما تودّان رؤية إجراءات تُتَّخذ "بشأن خفض انبعاثات الكربون واستدامة الاقتصاد وليس بشأن تسييس جسم المرأة." وقالت: "من المُستغرَب جداً أن تستسهِلَ السياسات إبلاغَ مجموعة نساء بما يجب أن يقُمْنَ به بدلاً من إبلاغ مجموعة شركات الوقود الأحفوري بما يجب أن تفعله."

الصورة بواسطة إيما وود على موقع ستوديو ألامي ستوك

النظر إلى استئصال الأسهر باعتباره بادرة حب ممكِّنة

يقول موندو "أعشق مهنتي"، وهو شخصٌ يجري عمليات استئصال الأسهر (قطع القناة المنوية) في الهضاب العليا الوَعِرة في بابوا غينيا الجديدة. وفي إطار عمله، يسير في الأحراش لأسابيع متواصلة، يرافقه أربعة أو خمسة متطوّعين يحملون المعدات اللازمة لإجراء عمليات استئصال الأسهر من دون مشرط للرجال الذين قرّروا أنَّهم لا يريدون مزيداً من الأطفال. يقدّمون الخدمة للمجتمعات المحلية ذات قدرة قليلة على الوصول إلى الرعاية الصحية. وبصفته موظف توعية في منظمة "ماري ستوبس" (Marie Stopes) في بابوا غينيا الجديدة، يقول موندو إنَّه لا يستطيع تلبية جميع الطلبات على خدماته. ويقول إنَّ معظم عملائه لديهم أصلاً ستة أو سبعة أطفال. وغالباً ما يعمل في وقتٍ متأخر من الليل لمساعدة الرجال الذين يفضلون التخفّي عندما يتواجد الآخرون حولهم.

في كل مكان، وخاصةً في المناطق الريفية المعزولة حيث لا تتوفر خدمات تنظيم الأسرة، يبدو استئصال الأسهر – وهو وسيلة سريعة وغير مؤلمة ومضمونة تقريباً لمنع الحمل – مفيداً ويمكن أن ينقذ حياة أولئك الأشخاص الذين يعتبرون أسرهم مكتملة. وإنّها طريقة أكثر أماناً بكثير وأيسر تكلفة من تعقيم الإناث الذي يبدو أكثر شيوعاً على الصعيد العالمي – حسب مدى اتّساعه (UN DESA, 2019).

وإلى جانب منح الرجل وسيلته الخاصة لمنع الحمل، إنَّ استئصال الأسهر يحرّر الشريكات من عبء وسائل منع الحمل الأنثوية المتوفرة، وآثارها الجانبية وتكاليفها وعدم ملاءمتها وعدم التيقُّن من نتائجها. فإنَّ زيادة استئصال الأسهر قد يفضي إلى خفضٍ جذري للنسبة المئوية المرتفعة لحالات الحمل غير المقصود، التي تشكّل حوالي حالة واحدة بين كل حالتَي حمل (UNFPA, 2021). باختصار، يبدو أنَّ استئصال الأسهر يجب أن يكون خياراً جذاباً بالنسبة للأزواج الذين لا يريدون إنجاب المزيد من الأطفال (أو أي أطفال). ولكن يبدو أنّ الانتشار العالمي لهذه العملية، الذي لم يتجاوز 2.4 بالمائة على الإطلاق، قد تراجع منذ عام 1994، وفق إحصاءات الأمم المتحدة (UN DESA, 2019).

يبدو استئصال الأسهر شائعاً في عددٍ من البلدان المتقدمة النمو، علماً أنَّ انتشارها في كندا والمملكة والمتحدة ونيوزيلندا وجمهورية كوريا يتجاوز نسبة 17 بالمائة – وفي بوتان حيث يبدو استئصال الأسهر أكثر انتشاراً بثمانية أضعاف من الحلقة المهبلية لمنع الحمل.

لماذا لا تبدو عمليات استئصال الأسهر (قطع القناة المنوية) أكثر شيوعاً على الصعيد العالمي؟ إنَّ فكرة المساس بجزءٍ بهذا القدر من الحميمية من جسم الرجل تؤثر في انتشار هذه العملية. علاوةً على ذلك، تكثر المفاهيم الخاطئة بشأن استئصال الأسهر: في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مثلاً، حيث لا يعتدُّ بانتشار استئصال الأسهر إحصائياً، قد يُنظَر إلى العملية باعتبارها فقداناً للرجولة من جهة، أو مرتبطة بكثرة العلاقات الجنسية غير الشرعية من جهة أخرى (Izugbara and Mutua, 2016). وثمة عامل آخر يساهم في ذلك أيضاً: منذ ظهور "حبوب منع الحمل"، أُسنِدَت مسؤولية منع الحمل إلى المجال الأنثوي. إذ عُرضَت العشرات من منتجات منع الحمل وجميعها تستهدف النساء.

ولكن هناك منطق يتّسم بمزيدٍ من الجوهرية في العمل حسب ما يرى جوناثان ستاك، الشريك المؤسس لليوم العالمي لاستئصال الأسهر، وهي منظمة مسؤولة عن تقديم حوالي 100,000 عملية استئصال الأسهر منذ عام 2013. إذ يتساءَل: "مثل كل شيء في العالم: أين تُجنى الأموال؟" ويضيف قائلاً: "لم يكُن هناك أي تسويق لاستئصال الأسهر لأنَّه ليس هناك أي شيء للبيع. فجميع خيارات منع الحمل المتوفرة في السوق والموجّهة للنساء تتطلّب الكثير من المال. أمّا استئصال الأسهر فليس بالعملية المربحة مالياً، بل هي عملية توفّر عليك المال." ووفق منشور أصدرته جامعة جون هوبكينز في عام 2020، يُقدَّر أنَّ كل عملية تجري في الولايات المتحدة لاستئصال الأسهر توفر على النظام الصحي ما يقرب من 10,000 دولار أمريكي لفترة عامَين تقريباً (USAID and Breakthrough Action, n.d.). ويشير المنشور نفسه إلى أنّه بين البلدان التي شاركت في مبادرة تنظيم الأسرة بحلول عام 2020 (التي تُعرَف اليوم برمز FP2030)، هناك فقط 20 بالمائة من الأزواج الذين لديهم إمكانية الوصول إلى عملية استئصال الأسهر.

ويقول ستاك إنَّه يعمل لتشجيع الرجال وتمكينهم، مع إطلاق العنان لما يسمّيه "رغبة بشرية فطريّة برعاية الأُسَر وحمايتها". في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام، تطلق منظمة اليوم العالمي لاستئصال الأسهر حملتها السنوية من خلال قنوات التواصل الاجتماعي والعيادات المجانية لاستئصال الأسهر وبرامج تدريب مقدّمي الرعاية وأشكال متعددة للدعوة. وفي عام 2022، اشتملت حملة الذكرى العاشرة على قائمة فعاليات لشهرٍ كامل في المكسيك وفي بلدان أخرى، نُظِّمَت كلّها تحت شعار: معاً ننهض بفضل الحبّ الذي نكنُّه لأنسفنا ولبعضنا ولمستقبلنا! (Rising up together out of love for self, each other, and our future!) من خلال الاتّفاق مع وزارة الصحة، حُشِدَ 400 طبيب لإجراء 10,000 عملية طوعية لاستئصال الأسهر في جميع أنحاء ولايات المكسيك البالغ عددها 32.

وسجّل أيضاً شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2022 إطلاقَ أكاديمية اليوم العالمي لاستئصال الأسهر، وهو برنامج مُتاح على الإنترنت لتعليم أُسُس استئصال الأسهر، ودليل يشمل روابط إلى أكثر من 500 مقدِّم لعملية استئصال الأسهر حول العالم.

يعشق ستاك السلطة التي تنبثق من الشمول الإيجابي للرجال في تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية، خاصةً في الوقت الذي يظهر فيه نوعٌ جديد من الوعي الذكري.

ويقول ستاك: "يمكنني أن أخبركم بأنَّ التغيير يحدث، والجدير بعالم تنظيم الأسرة أن يعترف بهذا التغيير. سنحرز مزيداً من النتائج إذا ما ظهر الرجال كمساهمين إيجابيين في المجتمع... فإذا سألتم أحد الشباب لماذا اختار استئصال الأسهر – وقد طرحتُ هذا السؤال على المئات منهم – سوف يخبركم عن حبّه لأطفاله أو أسرته أو لكوكب الأرض – سوف يعبّر لكم عن بعض الحب. ولذلك نشدّد على الاحتفال بالرجال المسؤولين ونتحدَّث عن استئصال الأسهر بوصفه بادرة حب."

© ف.ج. تريد

للحصول على بيانات دقيقة وموثوقة، تُشكّل المشاركة والثقة أساساً في العملية

تعتمد العملية المتَّسقة لوضع السياسات على بيانات سكانية جيدة. ومن أجل وضع الأولوية في الاستثمار ومعالجة أوجه عدم الإنصاف وتعزيز الرفاه العام، ينبغي أن تدرك الحكومات كم يبلغ عدد سكانها، وأين يعيشون، وكيف يعيشون. وهذا بدوره يتطلَّب مشاركة من قِبل الأفراد. في الأعوام الأخيرة، اعتمدت الحكومات في كل من غانا ومولدوفا ونيبال وبلدان أخرى نُهُجاً مُبتكرة لجمع البيانات وتحليلها، بما في ذلك التدابير اللازمة لإذكاء الوعي وبناء الثقة في العملية.

وفي عام 2021، مهَّدت غانا الطريق لأوَّل تعدادٍ شامل ومفصَّل ودقيق عن السكان والأُسَر المعيشية منذ أن نالت استقلالها. غير أنَّ الغموض الذي ارتبط بالغرض من التعداد، والمعلومات المغلوطة بشأن مَن يدخُل في عداد السكان ومَن لا يُحتسَب، قد دفعت بعض المجموعات إلى التعبير عن شواغلها بشأن المشاركة، وفق ما قاله سامويل أنّيم من هيئة الإحصاء في غانا. "أدركنا أنَّنا بحاجة إلى حملة توعية عامة لمساعدة الجميع على فهم أنّ تعداد عام 2021 سوف يشمل الجميع في حسابه، وأنَّ البيانات التي سنجمعها ستكون حاسمة في النهوض بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية والحدّ من أوجه عدم الإنصاف".

وكان هذا يعني التواصلَ مع الجمهور العام وأيضاً العمل المباشر مع المؤسسات الدينية والمدارس والجامعات ووسائل الإعلام وأعضاء البرلمان. وصمَّم المنظمون الشعار التالي، "أنت مهم، كُن محسوباً في التعداد" (You count, get counted). حتى أنَّ هيئة الإحصاء في غانا كلّفت نوادي الدراما الطلابية بعرض مسرحيات تهدف إلى إذكاء الوعي بشأن التعداد ومساعدة المجتمعات المحلية على فهم ما يمكن توقعه عندما يأتي القائمون بالتعداد إلى بلداتهم: كما استعانت غانا بالمجتمعات والفئات الضعيفة التي كثيراً ما تمَّ التغاضي عنها، مثل الأشخاص ذوي الإعاقة، في عمليات التعداد كمدّربين ومناصرين وجامعي بيانات. ويقول أنّيم: "أردنا أن نتأكَّد من أنَّ جميع الذين لديهم حصة في التعداد لديهم دوراً بؤدّونه في العملية".

وفي مولدوفا، قامت الحكومة ومجلس الشباب الوطني وصندوق الأمم المتحدة للسكان بحشد الشباب ليجولوا على المنازل ويشجّعوا الأشخاص على المشاركة في تعداد عام 2014. وبينما أثمرَ هذا الجهد في تحقيق مشاركةٍ أكبر، إلا أنَّ الكثير من المولدوفيين لم يُحسَبوا في التعداد. وبغية الحصول على مشهد أكثر اكتمالاً عن حجم سكان البلد، اتَّخذت الحكومة خطوة غير اعتيادية للمقارنة بين بيانات استهلاك الطاقة والبيانات الناتجة عن التعداد. بالإضافة إلى ذلك، استُخدِمت البيانات العابرة للحدود من أجل تقديرٍ هو الأوَّل من نوعه لعدد الأشخاص الذين يعيشون في البلد وعدد الأشخاص الذين يغادرونه ويعودون إليه. وساهمت هذه البيانات في تقديرٍ أدق لعدد الأشخاص الذين لديهم "إقامة عادية" في مولدوفا، ما دفع البنك الدولي إلى مراجعة الحالة الاقتصادية للأفضل، وإلى مراجعات متتالية لمؤشرات إحصائية أخرى، بما في ذلك خط الأساس والغايات الخاصة بأهداف التنمية المستدامة في البلد.

واعتزمت النيبال تعدادَ سكانها بالكامل في عام 2021 – ليست مهمة سهلة في بلدٍ يضمُّ 125 مجموعة إثنية وطائفة تتحدَّث 123 لغة مختلفة في المقاطعات السبع، 753 بلدة و6,743 "قرية صغيرة". واشتملت عملية بناء الثقة على إطلاق حملة إعلامية باستخدام الشعار التالي: "هذا التعداد يعنيني، يجب أن أشارك" (My census, my participation). كما ركّز المنظّمون أيضاً على إمكانية استخدام البيانات من أجل إبلاغ الإجراءات المُتَّبعة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بما يشمل قياس مدى تمتُّع النيباليين بحقوقهم ومدى وصولهم إلى الخدمات. وتأكَّدوا كذلك من أنَّ الفئات المهمَّشة والضعيفة، بما فيها الأشخاص ذوي الإعاقة، كانوا مشاركين في عمليات التعداد. وشكّلت النساء حوالي نصفَ عدد القائمين بالإحصاء ومعالجي البيانات.

ويشرح أنّيم أنَّه في نهاية المطاف، لكي يكون التعداد ذي قيمة حقيقية، يجب أن تكون البيانات مرآةً للحقيقة، ويجب أن يثقَ الأشخاص بأنَّ المعلومات سوف تفيدهم. ويضيف قائلاً: "هذا يعني اتّباع خطة عمل غير سياسية بصرامة، وإشراك جميع أصحاب المصلحة في العملية، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني والهيئات الدينية والفئات الضعيفة، يجب أن نوضح أنَّ بيانات التعداد هي الأساس لضمان عدم ترك أي أحد خلف الركب."

نستخدم ملفات تعريف الارتباط والمعرفات الأخرى للمساعدة في تحسين تجربتك عبر الإنترنت. باستخدام موقعنا الإلكتروني توافق على ذلك، راجع سياسة ملفات تعريف الارتباط الخاصة بنا.

X